النقد

من كتاب / دروب / للكاتب ميخائيل نعيمة لو شئت أن أحدد النقد بثلاث كلمات لقلت: إنه عمل الحياة الدائم، فهي ما زرعت السماء شموساً وأقماراً وكواكب ومجرات. ولا فجّرت من أديم الأرض هذه الأشكال ما بين سائل وجماد ونبات وحيوان وإنسان، ولونتّها بسائر الألوان، ولا ربطت كل ذلك بنظام شامل مانع لتقبع من بعدها في زاوية من المسكونة، وتنظر إلى زرعها بعين الرضى، ثم تقول معتزة بما صنعت : "إنه حسنٌ جداً". فَلَو أنّه كان أقصى ما تستطيع أن تتوخّاه لما أمعنت فيه تبديلاً و تغييراً، وتحريفات وتحويراً. فما تفتّت نجوم وتكوّرت نجوم ، ولا بركان، وطغى بحر، وزمجر إعصار، وقرقر زلزال، ولا كان انطلاق بعد انغلاق، وانغلاق بعد انطلاق، أو نمو ينتهي إلى انحلال، وانحلال ينتهي إلى نمو، ولا كان "هذا الحيوان المستحث من جماد" الذي حار في نفسه على قدر ما حارت البريّة فيه. لو كان لنا أن نجري على هذه الحركة الكونية التي لا تنقطع ولا رفّة جفن مثل الأحكام التي نجريها على حركاتنا البشرية لقلنا إنها ناجمة عن قلق وشوق في آن معاً، فنحن لا نأتي حركة من الحركات - عفوية كانت أو عن سابق قصد وتصميم - إلا نتيجة لعدم اطمئناننا إلى وضع نحن فيه، وإلا تشوقاً منّا إلى وضع أفضل منه. ما كان الإنسان في حاجةٍ إلى التفكير و التمييز والخلق والتخيُّل والإرادة والإفصاح عن هذه جميعها لو لم يكن العالم الذي يسكنه عالم ازدواج ثم تناقض كل ما فيه، فذكر وأنثى، وبعيد وقريب، وطويل وقصير، وحارّ وبارد، وثقيل وخفيف، وأبيض وأسود، وحلو ومرّ إلى آخر ما هنالك من متناقضات. ولا كان القلق والشوق لولا الحاجة الدائمة إلى الاختيار ما بين هذا الشيء و نقيضه، أو ذلك الفكر وعكسه، أو هاتيك العاطفة وأختها التي على الطرف الآخر منها. فنحن مدعوون في كل لحظة من وجودنا إلى التفكير و التمييز و الاختيار - أي إلى النقد .