يا له من امبراطور أحمق. ضحى بكل شيء من أجل اللاشيء. تلك الإمبراطورية التي شيدها، بذل من أجلها الدماء، صارت حديث الخلق، درة أبدى الرائى والسامع إعجابه بها. لكنه تخلى عن كل ذلك بإرادته، نفى نفسه منها، متجاهلاً نداءات مملكته انطلق هائماً في الصحراء يبحث عن اللاشيء. في عجب راقبوه يمشي دون أن يكترث وكأن تلك الإمبراطورية التي قضى حياته كلها في بنائها لم تعنِ شيئاً على الإطلاق، وكأنه وجدها يوماً دون عناء فتخلى عنها دون مبالاة... ذلك الإمبراطور الأحمق ظل يتجول في صحراء، صحراء مقفرة، صحراء جرداء فيها الموتُ يفترس الموتَ، لا سبيل أبداً للنجاة، لكنه لم يكترث. وانهارت مملكته ودولته، عم فيها الخراب، صارت مقبرة بعد أن كانت جنة يافعة، وما زال صديقنا يجول دون هدف. مرت شهور وحتى سنوات والأحمق يتجول. فجأة أدرك أنه يطارد سراب، يسأل نفسه لمَ ترك مدينته؟ لمَ ترك مملكته؟ تلك التي كانت تتوسل إليه الرحمة. باع كرامته من أجل الهواء، ويا ليته نَعِمَ بذلك حتى صار محرماً عليه الهواء. أحاطه الأعداء، تلك فرصتهم، لم يجد الإمبراطور بداً من الاستسلام، وفي خنوع ضعيف واستسلام ذليل أعلن انهزامه. أُسر الإمبراطور، أصبح سجين أعدائه الآن، يطوفون به المدن والبلاد. يتذكر الأحمق مملكته، وهل ينفع التذكر أو الندم؟!! ذاق من الذل ما سد جوعه، وارتشف من المَهانة ما روى عطشه. طاف أسيراً على ممالك أخرى، تلك الممالك التي كانت قديماً تبذل الغالي والنفيس علّها تفوز ببعض من مكانة إمبراطوريته. ما زالت محتفظة بهيبتها، تلك ملوكٌ لم تفرط في مجدها، تلك ملوكٌ لم تتخلى عن ممالكها. أدرك عندها كم كان أحمقاً!! في ليلة من لياليه المظلمة في الأسر يصله نداء من بعيد، نداء استغاثة، ذلك نداء إمبراطوريته، تلك التي ضرب فيها الجوع وعمها الخراب وأخذ مأخذها منها، تتعرض الآن للغزو. سُتمحى عن التاريخ كأنها لم تكن. وما يملك هذا المسكين؟ ماذا يمكنه أن يفعل؟ كفكف الأحمق الأسير دموعه، تملكت الجرأة من قلبه وتملك الحماس من روحه، فنهض في قوة، متجاهلاً الأغلال التي أسقطته أرضاً. لم ييأس وامتلأ عزماً، أغمض عينيه لبرهة، أخذ يفكر، ومع صرخة مدوية حاول جذب يده بقوة علَّ الأغلال تنخلع، لكنه استغرب، لم يلق أي مقاومة، ففتح عينيه.. أين ذهبت الأغلال ؟ اختفت!! نظر إلى قضبان الزنزانة التي أحاطته، اندفع نحوها بقوة، فمر خلالها ثم اختفت!! لم يجد وقتاً ليفكر ويتعجب، فوجئ بحارسين من حراس السجن يباغتانه، في عزم اندفع نحوهما، أحس ببُرودة في قبضته، فنظر إلى يديه، وجدها تمسك بقبضة سيف.. اندفع نحو الحارسين ووجه بسيفه ضربة لهما. مر السيف خلالهما.. لم تخرج قطرة دم واحدة، ثم تلاشيا كالأشباح التي طالما سمع عنها بالقصص. عجب لذلك واستبشر صاحبنا. انقضت فترة قصيرة من الوقت قبل أن يجد نفسه محاطاً بعشرات من الحراس يحاولون منعه، ألقى بسيفه على الأرض وعلت بسمة خفيفة ماكرة وجهه. لقد أدرك حقيقة الأمر، وأن حقيقة الأمر هو أنه كان وهماً. كان أسيراً للوهم، كان مسجون الخوف.. اندفع نحو الحراس واندفعوا نحوه وما أن وصل أول حارس منهم تبخر كل شيء.. وجد نفسه في صحراء خالية. اندفع الثائر مسرعاً إلى إمبراطوريته، التي تواجه خطراً محدقاً، خطراً حقيقياً وليس وهماً. عاد الإمبراطور. دخل بوابة إمبراطوريته ليجد الفساد قد عم فيها، فبالكاد فيها حياة. حان الآن وقت المواجهة، عليه أن يتصدى لتلك الغارات التي تريد النيل منه. والخطر تلك المرة حقيقياً. سيظهر الآن كل شيء، وسيظهر معدن الإمبراطور الحقيقي. هذه المرة عاد لينتقم، ولن يقبل أن يتكرر ما حدث أبداً. فيا ترى.. هل سيصدق؟؟