جريمة حضانة

يقول المثل لا تحكم على أحد من مظهره بل من أفعاله،وأظن أننا قد نشمل به شتى الكائنات وليس فقط بني البشر؛ فعند التعمّق في سلوك بعض الكائنات تصيبنا صعقة تعجب ندرك بعدها أننا على بعد أميال من إدراك ما يحدث حولنا في الحقيقة. فالخداع ليس فقط بيننا فلم يخلو الغّاب من ذلك، فاعتبر طائرالوقواق أفضل تجسيد للإحتيال بذكاء؛ يرتكب الجريمة لحظة ولادته ولحظة إنجابه بضميرٍ حي. يعتبر طائر الوقواق من الطيور المميزة بلونها الرمادي و في شكلها وصوتها، وقد صَعُب تصنيفها لفصيلة طيور معينة فتربعت على فصيلة الوقواقيات باختلافاتٍ بسيطة في الشكل والألوان والمناقير. يعيش الوقواق في الأماكن المكشوفة وعلى الأشجار متوسطة الطول، ويعتبر طيرانه سريعاً ومنخفضَ الارتفاع، وصوته جاء على اسمه فهو يشتهر بنداء (كوكو) أما الأنثى فصوت ندائها كفقاقيع الماء. تتميز هذه الطيور بأنها انعزالية حيث تتنقل منفردة أثناء موسم الهجرة ولا تمكث طويلاً في المكان الذي تحط فيه، وغذاؤها الرئيسي يرقات الحشرات، أما عن أعشاشها فهي لا تمتلك أعشاشاً. فهل تتساءل أين تضع بيوضها؟ الإجابة ببساطة هي أنها لا تمتلك أعشاشاً، بل تتملكها! ولكن كيف ذلك؟ في بحث أجراه علماء أستراليون (في الجامعة الوطنية الأسترالية وجامعة كامبردج) تبين أن طائر الوقواق يقوم بوضع بيوضه في أعشاش طيور من نوع آخر، وهذه عملية وهمية تخدع بها أنواعاً أخرى من الطيور لتقوم بإطعام صغارها والاهتمام بها، وإذا قام الطائر العائل بنقل بيض طائر الوقواق من عشه، فإن بعض طيور الوقواق ستعود وتهاجم العش لإجبار الطيور العائلة على الخضوع لهذا النوع من التطفل. ويقوم طائر الوقواق بالتخلص من واحدة أو أكثر من بيض عائلِهْ لتجنب اكتشاف وضعه لبيضه. خطةٌ استراتيجيةُ تثير الفضول فالأمر ليس بسيطاً ولا سهلاً! فما اللغز وراء نجاحه في معظم الأحيان؟؟ اللغز ببساطة هو دهاء هذا الطائر واتباعه استراتيجية محكمة تتمثل أولاً باختياره لعشٍّ مناسب؛ فأنثى الوقواق تضع بيضة واحدة فقط في عش لطيرمن نوع آخر حيث هناك بالفعل مجموعة من البيض في العش وبيضة الوقواق تعشعش بصورة غير ملفتة للنظر بين الآخرين. لكن كيف بصورة غير ملفتة؟ نعم، أنثى الوقواق يمكنها أن تضع بيضة تحاكي بشكل جيد البيض الآخر في العش، وبالتالي فإن الأم الحاضنة لا يمكنها بسهولة الكشف عن التسلل! الشيء الغامض والغريب هو أنه في أنواع الوقواق الشائعة، كل أنثى تضع بيضة منقوشة وملونة بدقة لتقليد أو محاكاة البيض الموجود في العش التي سوف تتطفل عليه! وهذا هو حل اللغز: ضمن أنواع الوقواق هناك سبعة أنواع مختلفة من الإناث، كل نوع يمكنها أن تضع بيضاً يحاكي شكلاً ولوناً البيض في العش الذي سوف تتطفل عليه. ولا يتبقى عليها إلا أن تنتهز اللحظة المناسبة فهي لا تحتاج إلا لابتعاد الطائر عن عشه للحظات حتى يستبدل بيضته ويحقق مراده. تفقس فرخ الوقواق وتشرع في تدمير جميع منافسيها، البيض وغيرها من الكتاكيت. يتلامس الجزء الغائر الموجود في ظهر الوقواق حديث الولادة مع بيضة أخرى، وعندئذ يتسلق الوقواق جوانب العش برجليه القويتين ويقذف بالبيض إلى خارج العش! ويظل طائر الوقواق يكرر هذه الحركة حتى يخلو العش تماماً من سائر البيض، ويبقى فرخ الوقواق وحده ليتلقى كل الغذاء الذي يجلبه أبواه البديلان، ليكون المتلقي الوحيد من الحضانة. سواء أوصفناها بالجريمة أم بالأنانية، فقانون الغاب لا يحاكم المجرم.. لكن قانون الإنسان يقول ما أبدع صنيع الخالق، فدرجة الدقة والإتقان في خلقه تجعل العقول تخوض في غيابات الخَلق والتصوير لتبصر هذا الإبداع!